1
يوم الاثنين 12 - 7، تلقيت على هاتفي المحمول رسالة هذا نصها:
المرافعة والحكم في الطعن على حكم «مدينتي» بنفس يوم الأربعاء، الساعة التاسعة والنصف صباحا.نرجو حضور كل من تسمح ظروفه بذلك للأهمية وابلاغ الآخرين.
الرسالة كانت موقعة من شخصية لا أعرفها هي الدكتورة ياسمين، والهدف منها توفير حشد من المثقفين والناشطين لحضور جلسة الفصل في الطعن الذي قدم في قرار المحكمة الادارية العليا بابطال عقد بيع أرض مدينتي «ثمانية آلاف فدان» الذي لم تتبع فيه الاجراءات القانونية مما ضيع على الدولة أكثر من مائة مليار جنيه.
لم تكن هذه أول مرة أتلقى فيها دعوة من هذا القبيل، لكنها أحدث ما تلقيته.وقبل ذلك جاءتني رسائل عدة.
واحدة للانضمام الى مسيرة الاحتجاج على مقتل خالد سعيد «شهيد الطوارئ» في الاسكندرية،
وثانية لحضور جلسة الحكم في المطالبة بوقف تصدير الغاز لاسرائيل،
وثالثة للمشاركة في وقفة احتجاجية على تمديد الطوارئ،
ورابعة للانضمام الى حملة المطالبة بوقف تزوير الانتخابات.
وخامسة للانخراط في حملة كسر الحصار وفتح معبر رفح.
وسادسة للتضامن مع الزميل مجدي حسين الذي سجن ونكل به بسبب تضامنه مع غزة..الخ..الخ.
لا أحد يعرف حجم هذه المجموعات ولا هوية رموزها، ولا موقفهم الفكري أو خلفياتهم السياسية، ومع ذلك فثمة قواسم مشتركة أهمها أنهم ينطلقون من عدم الرضا عن الوضع القائم في مصر، وأن وسائل الاتصال الحديثة مكنتهم من رفع أصواتهم وايصالها للآخرين بعيدا عن سلطة الدولة ورقابتها.
ولأن أغلبهم قدموا من المجهول، فهم حديثو عهد بالعمل السياسي، ثم انهم فقدوا الثقة في الأحزاب الشرعية القائمة، واختاروا دون توافق بينهم ان يتحركوا من خارجها، مما يجمع بينهم أيضا ان مطالباتهم ليست ذاتية أو فئوية، بمعنى أنها لا تتعلق بالرواتب والبدلات ومعادلة الشهادات مثلا، وانما هم مهجوسون بالقضايا العامة التي تهم الحاضر والمستقبل، دون ان تكون لهم رؤية واضحة لما يريدون، وان كان موقفهم أكثر وضوحا ازاء ما لا يريدون.
بمعنى أنهم ضد الوضع القائم، لكنهم لا يملكون رؤية متبلورة للبديل، وهي نتيجة طبيعية لاختلاف مشاربهم وتباين أحجامهم.
صحيح ان بعض المواقف الصادمة للمجتمع تستنفرهم وتدعوهم الى الاحتشاد وتشجع الجماهير على الالتفاف حولهم، مثل قضية رفع الحصار عن غزة وفتح معبر رفح، وكذلك فضيحة قتيل الاسكندرية خالد سعيد، الا ان ذلك يظل احتشادا استثنائيا يتجاوز الأصل المتمثل في الفرقة والتشرذم.
من القواسم المشتركة بين هذه المجموعات أيضا أنها تقوم على فئتين من الناس بالدرجة الأولى، هم النخب والشباب، أما حضورهم بين الجماهير فمحدود، وبطبيعة الحال فلا أحد يستطيع ان يشكك في غيرتهم ووطنيتهم، لكن أسلوب التعبير عن تلك الغيرة، والمدى الذي يمكن ان تذهب اليه في ذلك، يختلف من مجموعة الى أخرى.
لا يخلو الأمر من أناس التحقوا ببعض هذه التجمعات من باب ركوب الموجة والتعلق بالأضواء والبحث عن دور، الا ان هؤلاء يظلون قلة وفي حدود النسبة المتوقعة في مجالات العمل العام.
ينطبق ما سبق على الجمعية الوطنية للتغيير التي برزت بعد عودة الدكتور محمد البرادعي الى مصر وعلى حركة كفاية ومجموعة 6 ابريل و9 مارس، ومواطنون ضد الفساد أو التوريث أو غير ذلك.
وجميعها ما برحت تتحرك على السطح، لكنها لم تؤسس لنفسها قاعدة في عمق المجتمع، سواء بسبب خطابها النخبوي أو لحداثة عهدها بالعمل العام، ولعدم تمكينها من التفاعل مع الجماهير وحصارها في حدود المتعاملين مع الانترنت والمواقع الالكترونية.
2
وضع الأحزاب السياسية أسوأ بكثير، ذلك أنها في مصر ثلاث فئات أو درجات،
أحزاب شرعية تشكلت بموافقة لجنة الأحزاب ومن ثم برضا الحكومة والأجهزة الأمنية وهذه عددها 24 حزبا..
وأحزاب تحت التأسيس تشكلت ولم تحصل على الرخصة بعد ولم تفقد الأمل في ذلك، وفي المقدمة منها حزبا الكرامة والوسط،
وأحزاب ثالثة موجودة على الأرض ولا أمل لها في اكتساب الشرعية، على رأسها الاخوان المسلمون والحزب الشيوعي المصري.
وقبل ان نتوه في التفاصيل ينبغي ان نقرر أولا ان النظام السياسي في مصر لا يريد مشاركة ولا مساءلة أو تداول للسلطة.ومن ثم فالأحزاب بالنسبة له من متطلبات توفير «الديكور» الديموقراطي، تماما كما كان الحال في ظل الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الشرقية، حيث كان الحزب الشيوعي يحتكر السلطة طول الوقت باعتباره «الحزب الطليعي»، وفي الوقت ذاته كان يحيط نفسه ببعض الأحزاب التي تحسن الصورة وتعطي انطباعا وهميا بالتعددية السياسية.
والحزب الوطني في التجربة المصرية هو ذاته «الحزب الطليعي»، على الرغم من خلوه من المشروع الفكري الذي استندت اليه التجربة السوفييتية، والقاسم المشترك الأعظم بين الاثنين يتمثل في الاصرار على احتكار السلطة وتهميش كل ما عداها.
باشتراط موافقة الأمن والحزب الوطني على انشاء الأحزاب (أمين الحزب الحاكم هو رئيس لجنة الأحزاب) فمعنى ذلك أنه ما من حزب اكتسب الشرعية الا كان مرضيا عن مؤسسيه.وهذا الرضا قد يتطور الى صفقة واستخدام اذا استمر «التعاون» بين الطرفين.وقد يتحول الى قمع ومصادرة اذا لاحت بوادر التمرد على ذلك التعاون (حزب العمل جمد لهذا السبب وأوقفت صحيفة الشعب الناطقة باسمه منذ عام 2000).
النتيجة ان الأحزاب «الشرعية» ولدت هشة وضعيفة البنية.وحين لم يسمح لها بالتحرك خارج مقارها، ومن ثم التواصل مع المجتمع الا بتصريح من الأمن، فانه أوقف نموها من الناحية العملية.
وفي الوقت الراهن فان تلك الأحزاب أصبحت تعاني من شيوع التصدع الداخلي (الناصريون والتجمع والغد أبرز النماذج) أو الاختراق الأمني الذي لم يسلم منه حزب.
اذا لاحظت أنه في انتخابات مجلس الشعب لم تفز الأحزاب التي لا أعرف لماذا يسمونها معارضة بأكثر من خمسة أو ستة مقاعد (الاخوان «المحظورون» فازوا بأكثر من 85 مقعدا!)، فسوف نخلص الى نتيجتين،
الأولى ان حضور تلك الأحزاب أو غيابها عن المجالس النيابية والمحلية أصبح معلقا على قرار الحزب الحاكم الذي بات يوزع عليها المقاعد باعتبارها رشاوى سياسية، لتطييب الخاطر وكسب التأييد،
النتيجة الثانية والأهم ان الصحف التي تصدرها أصبحت التعبير الوحيد عن وجود تلك الأحزاب على قيد الحياة.حتى اذا قدر لها ان تتوقف فلن يبقى لما تنطق باسمه أثر على الأرض.
لا مجال للحديث عن الحزب الوطني الحاكم، ليس فقط لأن أغلبيته مفتعلة ومستندة الى التزوير والتدخلات الأمنية لصالحه، ولكن أيضا لأن مصيره أصبح مرتبطا بوجود السلطة واستمرارها.ومن ثم أصبح الافلات من قبضته أحد أهداف الحملة المطالبة بالتغيير.
بقية الأحزاب التي سبقت الاشارة اليها بعضها لافتات وعناوين بغير جمهور، والبعض الآخر بقي مجموعات نخبوية مغلقة على ذاتها، وظل حضور هؤلاء وهؤلاء في الاعلام أقوى من حضورهم في الحقيقة.
وحدهم الاخوان المسلمون الذين أثبتوا ذلك الحضور، لكنهم يعانون من أكثر من مشكلة،
الأولى ان التعبئة الاعلامية والسياسية القوية ضدهم أحاطتهم بسياج من الهواجس والشكوك نفّرت منهم قطاعات لا يستهان بها،
والثانية أنهم لم ينجحوا في تقديم صيغة لبرنامجهم تحظى بالقبول العام خصوصا بين نخب السياسيين والمثقفين، (يشهد بذلك مشروع البرنامج الذي أعلنوه في العام الماضي).
الثالثة أنهم لم يستثمروا حضورهم في الشارع السياسي في دفع حركة التغيير المنشود.حتى بدا وكأن حرصهم على تعزيز موقف الجماعة وتقوية عضلاتها مقدم على الابداع المطلوب في الدفاع عن الوطن، على الرغم من أنهم يدفعون ثمنا مرتفعا دون ان يفعلوا شيئا يذكر في مسار التغيير.
3
لا أحسب ان أحدا في مصر بات يعلق أملا على مؤسسات الدولة الأخرى.بعدما أثبتت خبرة الثلاثين سنة الأخيرة على الأقل ان المجالس النيابية تحولت الى أداة في يد الحكومة وليست رقيبة عليها.
وأن السلطة القضائية لم تكسب معركة استقلالها، خصوصا بعدما نجحت خطط اقصاء الداعين الى ذلك الاستقلال عن موقعهم في نادي القضاة.وهو ما تم بالتوازي مع تفكيك اعادة هيكلة أجهزة السلطة التنفيذية، بحيث لم يعد في مصر غير سلطة واحدة حقيقية تمسك بكل الخيوط وتصنع القرار، هي سلطة رئاسة الجمهورية.
وقد أغنى المستشار طارق البشري هذه النقطة في كتابه «مصر بين العصيان والتفكك» حين أفرد فصلا لما اسماه «شخصنة الدولة»، التي اعتبرها صيغة في الادارة تتجاوز الحكم المطلق ودولة الاستبداد، حيث تتعدد صور كل منهما، في حين ان للشخصنة شكلا وحدا، بمقتضاه يسيطر الفرد الحاكم بذاته على مفاتيح السلطة، وتصير آلة الحكم وأجهزتها كلها تحت امرته،
وعنده فان النظام المتشخصن الذي لا نظير له في التاريخ نظام مغلق، لا ينفتح على خارج ذاته، ولا تقوم آلية ما لاجراء أي تعديل فيه أو تجديد أو تنويع...
لذلك فان الصفة اللازمة للدولة المتشخصنة هي ان تسعى دائما الى تثبيت الأمر الواقع ومقاومة التغيير حتى وان ادعته.ومن ثم فأخطر ما يهددها بالزوال هو الحركة، لأن الحركة تستدعي تعديلات وتستدعي خبرات فنية وعناصر جديدة، وتكاثرا في الأشخاص وأحوالهم، وهي ما تستدعيه وتستصحبه لكشف الوهن والعجز.
لذلك فان الدولة المتشخصنة ما خيرت قط بين بديلين أحدهما الجمود أو الثبات أو عدم التحرك الا واختارت الجمود وعدم التحرك كي لا ينكشف عوارها.
4
تعد الحيرة وصفا غير دقيق لهذه الصورة التي يبدو فيها الأفق شبه مسدود، على نحو يستدعي الكثير من مشاعر الاحباط.ذلك ان مشاعر الغضب المخيم حين توزعت على تجمعات عدة وتعاملت معها أيد مختلفة الاتجاهات واقتصر النضال المعبر عنها على الاحتجاجات واللافتات التي تتوجه الى وسائل الاعلام، فان ذلك الغضب فقد قدرته على الضغط والتأثير،
وحين عجزت الأحزاب المعوقة أصلا عن استثمار تلك المشاعر لصالح التغيير المنشود، وتحولت الى جثث سياسية لا حراك فيها، فكان من الطبيعي ان تنتكس الدعوة الى التغيير.
الأمر الذي يستدعي السؤال:
على أي شيء يراهن الناس ومن أين يستلهمون القدرة على التطلع الى المستقبل والتفاؤل به؟
ان المشهد الذي نحن بإزائه في مصر الآن دال على ان مفاسد الاستبداد لا تدمر الحاضر فقط، وانما تدمر المستقبل أيضا، ذلك ان سياسات الملاحقة والقمع ومصادرة الحريات العامة لا تتيح الفرصة لنمو أو تجديد خلايا العافية في المجتمع، بما تحدثه من اخصاء مستمرة له.
وهي حين تفعل ذلك فانها تصادر المستقبل أيضا، من حيث انها تجتث بذور ذلك الأمل في الغد أولا بأول بما يشيع التصحر الممتد في الحياة السياسية.
على صعيد آخر فان كثيرين من الناشطين في الحياة السياسية أصبحوا يترددون في دفع ضريبة استعادة الحرية، التي هي مكلفة في كل أحوالها.وتكون النتيجة ان ترددهم هذا يطول من أجل الاستبداد، فيدفعون في ظل الذل ثمنا من حاضرهم ومستقبلهم أضعاف ما كان يتعين عليهم دفعه لاستعادة حريتهم.
ولست أنسى ان الشهيد سيد قطب رحمه الله كان قد كتب مقالة ساخنة بهذا المعنى في منتصف شهر يونيو عام 1952 كان عنوانها «ضريبة الذل».وشاءت المقادير ان تنطلق ثورة يوليو بعد ذلك بخمسة أسابيع.
اذا سألتني ما العمل ومن أين يأتي الأمل، فردي أنه «ليس لها من دون الله كاشفة».