سؤال إلى أبي
ياسر سعيد حارب
كان الطفل (كامبل جينكس) جالساً مع أمّه في البيت عندما سمعها تتحدث مع إحدى صديقاتها عن قرار الحكومة بإغلاق ثلث المكتبات العامة في إحدى مقاطعات ولاية كارولاينا الشمالية بالولايات المتحدة، بسبب الأزمة المالية التي تعصف بالبلاد، فانطلق الفتى ذو الأعوام التسعة إلى أصدقائه ليطلعهم على الخبر الذي نزل عليهم جميعاً كالصاعقة.
فكّر الأطفال قليلاً ثم قرّروا أن يكتبوا رسائل اعتراض على هذا القرار ويرسلوها إلى مجلس المدينة، ولكنهم لم يكتفوا بالكلام فقط، فنظّموا حملة تبرعات لصالح المكتبات العامة، قاموا من خلالها ببيع العصير الطازج أمام منازلهم، حيث جمع كامبل قرابة ال600 دولار من بيع عصير الليمون الطازج، ثم وضع المال في جرّة وحمله إلى أحد أفرع المكتبات المزمع إغلاقها ومنحه لأمين المكتبة.
تفاجأ المسؤولون في الحكومة بهذه الحملة التي نظّمها طلبة الصف الثالث الابتدائي في إحدى مدارس المقاطعة، وبعد اجتماعات مطوّلة، قرروا تخصيص ثلاثة ملايين ونصف المليون دولار لدعم بعض المكتبات العامة وإبقاء أبوابها مفتوحة.
لا يمكننا مقارنة هذه القصة بقصة مشابهة في العالم العربي، لأن المقارنة ستكون مجحفة بين أكبر اقتصاد في العالم شكّلته خمسون ولاية متّحدة، وبين اثنتين وعشرين دولة مبعثرة، تتستر بعضها بالمساعدات الأميركية والخارجية لكي لا تصنّف على أنها دول فقيرة، وتجهل بعضها كم تنفق وماذا تنفق، بحسب تصريحات بعض وزراء المالية العرب.
ولكن إذا قارنا مشاعر الأطفال بين المكانين، فسنجد بأن بعض الأطفال يخشون زوال المكتبة، وبعضهم يتمنون زوالها، كما حصل في بعض مدارسنا العربية.
المكتبة في عُرف الدول المتقدمة، كسنغافورة على سبيل المثال، هي مكان للتواصل مع الآخر ومعرفة كل ما هو جديد، مثل الأسواق التجارية في عالمنا العربي.
دخلت قبل أعوام إلى المكتبة الوطنية بسنغافورة فوجدتها تغص بالأطفال والشباب من الجنسين، حتى إنني لم أتمكن من المرور في أحد أقسامها خشية أن أدوس على أرجل الفتية الذين افترشوا الأرض بين الكتب، فكان بعضهم يقرأ كتاباً، وكان بعضهم متسمراً أمام كمبيوتره، وكان بعضهم يكتب على لوحة بيضاء كبيرة خصصت للشباب ليكتبوا عليها ما يريدون ويعبّروا عن مشاعرهم تجاه قضاياهم المختلفة.
أحسست حينها بأنني في أحد المراكز التجارية في منطقتنا العربية، فلقد رأيت الناس يترجّلون من المترو أو من الحافلة على عجل ويهرولون تجاه المكتبة ليحجز كل منهم مكاناً في قسمه المفضّل.
كنت في لندن عندما صدر أحد أجزاء رواية (هاري بوتر) وشاهدت بأم عيني أناساً يفترشون الأرصفة أمام المكتبات المنتشرة في منطقة (بيكاديللي) في انتظار طرح الرواية وشراء النسخ الأولى منها، لقد كان هؤلاء يخشون أن تنفد النسخ ويقرأ غيرهم الرواية قبلهم. وفي فرنسا، شاهدت في التلفاز أناساً ناموا أمام إحدى المكتبات قبل أن تُطرح النسخة الفرنسية من رواية (الزهير) لباولو كويلو حتى يحصلوا على نسخ قبل الآخرين.
إن المجتمع الذي يتنافس أفراده على شراء الكتب لابد أن يتفوّق على المجتمع الذي يتنافس أفراده على شراء الهواتف النقالة، وبالتالي، فإن الثقافة في تلك المجتمعات الحية، هي مذهب ومِلّة تُعرف بها أمام البشرية جمعاء، وتَخلد في ذاكرة التاريخ والحضارة.
سألت أحد مرتادي لندن إن كان يعرف منطقة بيكاديللي، فقال لي بأنه يعرف جميع مطاعمها ومقاهيها، فسألته عن مكتبة (ووترستون)، فقال لي بأنه لم يسمع عنها قط، على الرغم من كونها أكبر مكتبة في أوروبا. سألته عن المتحف البريطاني، وعن متحف التاريخ الطبيعي، فلم يعرفهما، مع أنه يسكن على نفس الشارع الذي يقعان عليه، ويمرّ عليهما في اليوم أكثر من عشرة مرات، في كل صيف، منذ عشرين عاماً.. ولا زال لا يعرف.
لا تكمن مشكلتنا في أننا لا نعرف، ولكن في أننا لا نريد أن نعرف. إن الكتاب، كما يقول (فولتير)، هو الخطاب الموجّه إلى الأصدقاء المجهولين على وجه الأرض.
فبالكتاب استطاع المسلمون أن يمدوا حضارتهم على مسطحات لم تستطع حوافر خيولهم أن تصل إليها. وعندما أحرق المسلمون الكتاب، كما فعل الموحدون بكتب ابن رشد، بدأ الانهيار العظيم للحضارة الإسلامية، وعندما تُرجمت كتبه إلى العبرية على يد موسى بن ميمون ومن ثم إلى لغات أخرى، بدأ النهوض العظيم للحضارة الأوروبية ومن ثمّ الغربية.
يقول عبّاس محمود العقّاد: «أُحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني» فمن خلال الكتب يعيش الإنسان تجارب تعادل أضعاف التجارب التي يعيشها في حياته، ومن خلالها يسافر في التاريخ، ويطوف في الأكوان المتناثرة على صفحاتها.
عندما كنت صغيراً، كان أبي يحكي لي عن طه حسين وإبداعاته الأدبية حتى انبهرتُ بذلك الأديب وبمعظم الأدباء الذين عاشوا في تلك الفترة، وكيف أنه كان يقرأ لمدة عشر ساعات في اليوم، فسألته: «وكيف يقرأ وهو ضرير؟» فقال لي بأنه كان لديه من يقرأ له.. واليوم أسأل أبي مرة أخرى: «ماذا كان سيفعل طه حسين لو كان بصيراً؟».
* نقلا عن "البيان" الإماراتية
ToO_CoOl6
لانحتاج لمسرح لنتعرف معنى العذاب فالحياة نفسها تمنحنا فرصا لاتحصى للتعرفy عليه